فصل: فصلٌ فِي الْبَيْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.فصلٌ فِي الْبَيْعِ:

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهَ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرَّيْعِ، فَكَانَ مَالًا، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ.
قَالَ: (وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا وَقَالَ: وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَبْتَاعَهَا وَيَطَأَهَا)، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قَبِلَ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ، لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا، حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي، لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا، لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَهُوَ ثِقَةٌ قَبِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يَعْتَبِرُ أَكْبَرَ الرَّأْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ.
قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ.
وَلَا نَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ) يَعْنِي بَعْدَ التَّحَرِّي.
(فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ)، لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ، وَلَا مُنَازِعَ وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ: طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي، ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ جَارِيَةٌ كُنْتُ أَمَةً لِفُلَانٍ، فَأَعْتَقَنِي، لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ، وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجْتَهَا، وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا، حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادِ مُقَارِنٍ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ الزَّوْجَ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ حَيْثُ يَقْبَلَ قَوْلَ الْوَاحِدِ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ، وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازَعُ فَافْتَرَقَا، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ الْفَرْقُ وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبِرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ: أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازَعِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنُهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ، لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ الِاحْتِكَارُ بِأَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا، لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ وَكَذَا التَّلَقِّي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ».
قَالُوا: هَذَا إذَا لَمْ يُلَبِّسْ الْمُتَلَقِّي عَلَى التُّجَّارِ سِعْرَ الْبَلْدَةِ فَإِنْ لَبَّسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ غَادِرٌ بِهِمْ وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَا أَضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثَوْبًا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا احْتِكَارَ فِي الثِّيَابِ، فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الضَّرَرَ، إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ، ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ، وَإِذَا طَالَتْ يَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ.
ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ»، وَقِيلَ: بِالشَّهْرِ، لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ، وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا يَأْثَمُ وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ.
الشرح:
فصلٌ فِي الْبَيْعِ:
الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالسَّبْعِينَ، وَرَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَأَعَلَّهُ بِعَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، وَقَالَ: لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ رُوِيَ بِغَيْرِ هَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ»، انْتَهَى.
وحَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَرَوَى حَدِيثَ عُمَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْجَالِبُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ ثَوْبَانَ بِهِ: «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»، انْتَهَى.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: عَلِيُّ بْنُ سَالِمِ بْنِ ثَوْبَانَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى.
وَوَجَدْت الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْر عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مِثْلُهُ سَوَاءً، ذَكَرَهُ فِي بَابِ جَلَبَ فَلْيُنْظَرْ فِي ذَلِكَ، وَلْيُحَرَّرْ مِنْ نُسْخَةٍ أُخْرَى، فَلَعَلَّهُ غَلَطٌ، وَلَكِنِّي عَلَّقْتُهُ لِأَتَذَكَّرَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ».
قُلْت: هُمَا حَدِيثَانِ: فَالْأَوَّلُ: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ»، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ: «قَالَ: لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَاهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ»، انْتَهَى.
الثَّانِي: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ»، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ».
قُلْت: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ ثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ بَاتَ فِيهِمْ امْرِئٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ»، انْتَهَى.
وَكُلُّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ بِهِ، إلَّا الْحَاكِمَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَسَاقَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَالَ: لَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: قُلْتُ: رَوَى عَنْهُ عَشَرَةُ أَنْفُسٍ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ: عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ تَرَكُوهُ، وَأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ فِيهِ لِينٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ بِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَقَالَ أَبِي: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَأَبُو بِشْرٍ لَا أَعْرِفُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفِي الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، قِيلَ لِسَعِيدٍ: فَإِنَّك تَحْتَكِرُ، قَالَ سَعِيدٌ: إنَّ مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، كَانَ يَحْتَكِرُ، انْتَهَى.
وَمَعْمَرٌ هَذَا هُوَ مَعْمَرُ بْنُ أَبِي مَعْمَرٍ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيِّ.
قَالَ: (وَمَنْ احْتَكَرَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ أَوْ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحْتَكَرٍ) أَمَّا الْأَوَّلُ غَيْرُ مُحْتَكَرٍ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جُمِعَ فِي الْمِصْرِ وَجُلِبَ إلَى فِنَائِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَا يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ.
قَالَ: (وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ» وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْعَاقِدِ، فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي هَذَا الْأَمْرُ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ فِي ذَلِكَ، وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مَا يَرَى زَاجِرًا لَهُ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَدَّى رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ، وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؟ قِيلَ: هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَقِيلَ: يَبِيعُ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ وَهَذَا كَذَلِكَ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تُسَعِّرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ.
فَحَدِيثُ أَنَسٍ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْبُيُوعِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَثَابِتٍ، وَحُمَيْدَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَنَسٍ: «قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ، وَلَا مَالٍ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: الْمُسَعِّرُ، هَكَذَا وَجَدْتُهُ فِي نُسْخَتَيْنِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ الْمَوْصِلِيُّ ثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ ثَنَا أَبُو إسْرَائِيلَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا»، الْحَدِيثَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي عَرْضٍ، وَلَا مَالٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْخُدْرِيِّ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ التَّمَّارُ ثَنَا أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، إنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ أَلْقَاهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دِينٍ، وَلَا دُنْيَا»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ) مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ، لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا)، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغْيِيرِهِ بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ.
قَالَ: (وَمَنْ آجَرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ أَوْ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ بِالسَّوَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُرَدُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِخِلَافِ السَّوَادِ، قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ، فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ: (وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)، لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا: حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ»، لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: حَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ وَأَبِي عَلْقَمَةَ، مَوْلَاهُمْ، أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: سُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَافِقِيِّ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ: إنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، وَأَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ، قَتَلَتْهُ الرُّومُ بِالْأَنْدَلُسِ سَنَةَ خَمْسَةَ عَشْرَ وَمِائَةٍ، وَأَبُو عَلْقَمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: وَأَنَّهُ كَانَ عَلَى قَضَاءِ أَفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الْمَوَالِي، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. انْتَهَى.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الْمِصْرِيِّ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَغَارِسَهَا، لَا يَغْرِسُهَا إلَّا لِلْخَمْرِ، وَلَعَنَ مُجْتَنِيَهَا، وَلَعَنَ حَامِلَهَا إلَى الْمَعْصَرَةِ، وَعَاصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَمُدِيرَهَا»، انْتَهَى.
وَفِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ، فَلْيُتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ: فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً»، فَذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّ فِيهِ، عِوَضَ: الْخَمْرِ، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ التَّاسِعِ وَالْمِائَةِ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ سَعِيدٍ التُّجِيبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَتَانِي جَبْرَائِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ»، فَذَكَرَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ عِوَضَ: «وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُسْقَاةَ لَهُ»، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ عُمَرَ، ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ أَبِي دَاوُد، سَوَاءً.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضُهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا أَيْضًا، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُورَثُ» وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُحْتَرَمَةٌ، لِأَنَّهَا فِنَاءُ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ آيَةُ أَثَرٍ التَّعْظِيمِ فِيهَا، حَتَّى لَا يُنَفَّرَ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدَ شَوْكُهَا، فَكَذَا فِي حَقِّ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِ الْبَانِي.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَكَّةُ حَرَامٌ، لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا، وَلَا تُورَثُ».
قُلْت: أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ، وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا يُبَاعُ رِبَاعُهَا، وَلَا يُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا»، انْتَهَى.
قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إسْمَاعِيلُ بْنُ مُهَاجِرٍ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُو، انْتَهَى.
وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَعَلَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُهَاجِرٍ.
قَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَأَعَلَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ، وَأَبِيهِ، وَقَالَا فِي إسْمَاعِيلَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْمَاعِيلُ بْنُ مُهَاجِرٍ هَذَا هُوَ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَبُوهُ أَقْوَى مِنْهُ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَثَمَنِهَا، وَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ أَجْرِ بُيُوتِ مَكَّةَ شَيْئًا، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا»، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، قَالَ: مَكَّةُ حَرَامٌ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَأَجْرُ بُيُوتِهَا، انْتَهَى.
وَسَكَتَ عَنْهُ الْحَاكِمُ، وَجَعَلَهُ شَاهِدًا لِحَدِيثِ ابْنِ مُهَاجِرٍ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَوَهَمَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَدَّاحُ، وَالثَّانِي فِي رَفْعِهِ، وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ حَدَّثَنِي أَبُو نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الَّذِي يَأْكُلُ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ إنَّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارًا، انْتَهَى.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَطَّانِ حَدِيثَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَقَالَ: عِلَّتُهُ ضَعْفُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَهَمَ فِي قَوْلِهِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، إنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَوَهَمَ أَيْضًا فِي رَفْعِهِ، وَخَالَفَهُ النَّاسُ، فَرَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَالَ فِيهِ: ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، فَلَعَلَّ الْوَهَمَ مِنْ صَاحِبِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي آخِرِ الْحَجِّ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَابِلٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرَفَعَ الْحَدِيثَ، قَالَ: «مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ الرِّبَا»، انْتَهَى.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكَّةُ حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا تَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا»، انْتَهَى.
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مِنْ رِبَاعِ مَكَّةَ، انْتَهَى.
وَيُكْرَهُ إجَارَتُهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ آجَرَ أَرْضَ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا».
وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أَسْكَنَ غَيْرَهُ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ آجَرَ أَرْضَ مَكَّةَ، فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا».
قُلْت: غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ أُجُورِ بُيُوتِ مَكَّةَ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا»، انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَابِلٍ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرَفَعَهُ، قَالَ: «مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَقَدْ أَكَلَ نَارًا»، انْتَهَى.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْحَجِّ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنْ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْهَى أَنْ تُبَوَّبَ دُورُ مَكَّةَ، لَأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنْظَرَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي امْرُؤٌ تَاجِرٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ بَابًا يَحْبِسُ لِي ظَهْرِي، قَالَ: فَذَلِكَ إذًا، انْتَهَى.
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا، لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: لَقَدْ اُسْتُخْلِفَ مُعَاوِيَةُ، وَمَا لِدَارٍ بِمَكَّةَ بَابٌ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عَطَاءً يَقُولُ: «سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ»، قَالَ: يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاءُوا، انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ فِي الْبُيُوعِ ثَنَا الْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، قَالَ: كُنَّا بِمَكَّةَ، وَمَعِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ لِي أَحْمَدُ يَوْمًا: تَعَالَ أُرِيك رَجُلًا لَمْ تَرَ عَيْنَاك مِثْلَهُ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ فَذَهَبْت مَعَهُ، فَرَأَيْتُ مِنْ إعْظَامِ أَحْمَدَ لِلشَّافِعِيِّ، فَقُلْت لَهُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ.
قَالَ: هَاتِ، فَقُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي أُجُورِ بُيُوتِ مَكَّةَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قُلْتُ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَجْعَلُوا عَلَى دُورِكُمْ أَبْوَابًا، لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ يَنْزِلَانِ، وَيَخْرُجَانِ، وَلَا يُعْطِيَانِ أَجْرًا، فَقَالَ: السُّنَّةُ فِي هَذَا أَوْلَى بِنَا، فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا سُنَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟، لِأَنَّ عَقِيلًا وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيٌّ، وَلَا جَعْفَرٌ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ الْمَنَازِلُ بِمَكَّةَ لَا تُمْلَكُ، كَيْفَ كَانَ يَقُولُ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا، وَهِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ؟ قَالَ: فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَقَالَ: لَمْ يَقَعْ هَذَا بِقَلْبِي، فَقَالَ إِسْحَاقُ لِلشَّافِعِيِّ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}؟ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: اقْرَأْ أَوَّلَ الْآيَةِ {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، إذْ لَوْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُ، لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْشُدَ فِيهَا ضَالَّةً، وَلَا يَنْحَرَ فِيهَا بَدَنَةً، وَلَا يَدَعَ فِيهَا الْأَرْوَاثَ، وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، قَالَ: فَسَكَتَ إِسْحَاقُ، انْتَهَى.
وَبِحَدِيثِ: هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا، اسْتَدَلَّ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: «قِيلَ ِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ: أَلَا تَنْزِلُ مَنْزِلَكَ مِنْ الشِّعْبِ؟ قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا، وَكَانَ عَقِيلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلَ إخْوَتِهِ مِنْ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ بِمَكَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: فَانْزِلْ فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ فَأَبَى، وَقَالَ: لَا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ، فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا، وَكَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ»، انْتَهَى.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ: وَقَدْ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الدُّورَ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ ضَيَّقُوا الْكَعْبَةَ، وَأَلْصَقُوا دُورَهُمْ بِهَا، ثُمَّ هَدَمَهَا، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ كَانَ عُثْمَانُ، فَاشْتَرَى دُورًا بِأَغْلَى ثَمَنٍ، وَزَادَ فِي سِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا بَيْعًا وَشِرَاءً، إذَا شَاءُوا، انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ فِي سِيرَتِهِ عُيُونُ الْأَثَرِ: وَهَذَا الْخِلَافُ هُنَا يُبْتَنَى عَلَى خِلَافٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَكَّةَ هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً، أَوْ أُخِذَتْ بِالْأَمَانِ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا مُؤَمَّنَةٌ، وَالْأَمَانُ كَالصُّلْحِ يَمْلِكُهَا أَهْلُهَا، فَيَجُوزُ لَهُمْ كِرَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، لِأَنَّ الْمُؤَمَّنَ يَحْرُمُ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِيَالُهُ، وَكَانَ «النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ إلَّا الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ»، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ إسْلَامِهِمَا إلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمٍ، فَهُوَ آمِنٌ وَهِيَ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ وَهِيَ بِأَعْلَى مَكَّةَ»، فَكَانَ هَذَا أَمَانًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، لِأَنَّهَا أُخِذَتْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ فِي مَكَّةَ، أَنَّهَا مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِيهَا قَسْمٌ، وَلَا غَنِيمَةٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَهْلِهَا أُخِذَ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حُرْمَتِهَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْأَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا بَلْدَةٌ مُؤَمَّنَةٌ، آمَنَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ تَبَعًا لَهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا إنْ فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَتَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَإِنْ فُتِحَتْ صُلْحًا فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى أَهْلِهَا فَيَجُوزُ. انْتَهَى.
وَحَدِيثُ: «مَكَّةُ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ»، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنَ مَاهَكَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَبْنِي لَك بَيْتًا؟ يَعْنِي بِمَكَّةَ قَالَ: لَا، إنَّمَا هِيَ مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ»، انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَقِيبَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: وَقَدْ صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ صُلْحًا، فَمِنْهَا مَا حَدَّثَنَا وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ حِينَ سَارَ إلَى مَكَّةَ لِيَفْتَحَهَا، قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءُوا، كَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ، ثُمَّ قَالَ: اُسْلُكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَ، فَسَارُوا، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ الَّذِي يَلِي الصَّفَا، فَصَعِدَ الصَّفَا، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَالْأَنْصَارُ أَسْفَلُ مِنْهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِقَوْمِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرَابَتِهِ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا إذًا؟ كَلًّا وَاَللَّهِ، إنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ حَقًّا، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، قَالُوا: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إلَّا مَخَافَةَ أَنْ يُعَادُونَا، قَالَ: أَنْتُمْ صَادِقُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا مِنْهُمْ إلَّا مَنْ بُلَّ نَحْرُهُ بِالدُّمُوعِ»، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ كَانَتْ تُسَمَّى السَّوَائِبَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أَسْكَنَ غَيْرَهُ».
قُلْت: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فِي الْحَجِّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ، قَالَ: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إلَّا السَّوَائِبُ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَمُسْنَدِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْأَدَمِيّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عُثْمَانَ بِهِ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ رَوَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ مَكَّةَ، وَحَدَّثَنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ بِهِ، قَالَ: «كَانَتْ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا تُكْرَى، وَلَا تُبَاعُ، وَلَا تُدْعَى إلَّا السَّوَائِبُ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ»، قَالَ يَحْيَى: فَقُلْت لِعُمَرَ: إنَّك تُكْرِي، قَالَ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْمَيْتَةَ لِلْمُضْطَرِّ إلَيْهَا، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ، قَالَ: «كَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ السَّوَائِبَ، لَا تُبَاعُ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ»، انْتَهَى.
(وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ، مَا شَاءَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)، لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ قَرْضًا جَرَّ بِهِ نَفْعًا، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ حَالًّا فَحَالًّا: «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا»، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ جُزْءًا فَجُزْءًا، لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَلَيْسَ بِقَرْضٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْآخِذِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ قَالَ: (وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ وَيُرْوَى جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ، وَفِي التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ تَرْكُ التَّجْرِيدِ، لِأَنَّ التَّعْشِيرَ يُخِلُّ بِحِفْظِ الْآيِ، وَالنَّقْطُ بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ اتِّكَالًا عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ.
قَالُوا فِي زَمَانِنَا لَا بُدَّ لِلْعَجَمِ مِنْ دَلَالَةٍ فَتَرْكُ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِالْحِفْظِ وَهِجْرَانِ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ حَسَنًا.
الشرح:
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ قَوْلُهُ: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، وَيُرْوَى جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ.
قُلْت: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، انْتَهَى.
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةً عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَهُ.
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، لَا تُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، انْتَهَى.
وَبِهَذَا السَّنَدِ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّوْمِ أَخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: قَوْلُهُ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ يُحْتَمَلُ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ جَرِّدُوهُ فِي التِّلَاوَةِ، لَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي أَيْ جَرِّدُوهُ فِي الْخَطِّ مِنْ النَّقْطِ، وَالتَّعْشِيرِ. انْتَهَى.
قُلْت: الثَّانِي أَوْلَى، لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِهِ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ إبْرَاهِيمُ يَذْهَبُ بِهِ إلَى نَقْطِ الْمَصَاحِفِ، وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمَصَاحِفِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَبْيَنُ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ لَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْكُتُبِ، لِأَنَّ مَا خَلَا الْقُرْآنَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يُؤْخَذُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ عَلَيْهَا، وَقَوَّى هَذَا الْوَجْهَ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَمَّا خَرَجْنَا إلَى الْعِرَاقِ خَرَجَ مَعَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَيِّعُنَا، وَقَالَ لَنَا: إنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّخْلِ، فَلَا تَشْغَلُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ فَتَصُدُّوهُمْ، وَجَرِّدُوا الْقُرْآنَ، قَالَ: فَهَذَا مَعْنَاهُ، أَيْ لَا تَخْلِطُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، انْتَهَى.
وَرِوَايَةُ «جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ» غَرِيبَةٌ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا، وَالْجُنُبُ يُجَنَّبُ الْمَسْجِدَ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّجَاسَةِ عَامٌّ فَيَنْتَظِمُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ»، وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ، وَهُمْ كُفَّارٌ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ فِي بَابِ خَبَرِ الطَّائِفِ عَنْ أَبِي دَاوُد عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَهُمْ الْمَسْجِدَ، لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحْشَرُوا، وَلَا يُعْشَرُوا، وَلَا يُجْبُوا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا، وَلَا تُعْشَرُوا، وَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهِ، وَكَذَلِكَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، قِيلَ: إنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، انْتَهَى.
ورَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ الْحَسَنِ: «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، لِيَنْظُرُوا إلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنْزِلُهُمْ الْمَسْجِدَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ فَقَالَ: إنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْجُسُ، إنَّمَا يَنْجُسُ ابْنُ آدَمَ» انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قَدِمَ وَفْدٌ مِنْ ثَقِيفٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَعَهُ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ)، لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي اسْتِخْدَامِهِمْ حَثُّ النَّاسِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَهُوَ مُثْلَةٌ مُحَرَّمَةٌ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِإِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ وَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ)، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ مَنْفَعَةً لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ الْبَغْلَةَ» فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَمَا رَكِبَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ: وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ الْبَغْلَةَ وَاقْتَنَاهَا».
قُلْت: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْجِهَادِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: وَاَللَّهِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ يَوْمِئِذٍ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا يَقُودُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ «خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا إلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً»، انْتَهَى.
وَلَمْ يُخْرِجْ مُسْلِمٌ لِعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ شَيْئًا، وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُ بَغْلَتَهُ الدُّلْدُلَ فِي أَسْفَارِهِ، وَعَاشَتْ بَعْدَهُ حَتَّى كَبِرَتْ، وَزَالَتْ أَسْنَانُهَا، وَكَانَ يُجِشُّ لَهَا الشَّعِيرَ، وَمَاتَتْ بِالْبَقِيعِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُ أَنَا، وَأَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ، وَالْكُفَّارُ، وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ، قِبَلَ الْكُفَّارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِرِكَابِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: انْهَزِمُوا، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى أَمْرَهُمْ مُدْبِرًا حَتَّى هَزَمَهُمْ اللَّهُ، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ»، مُخْتَصَرٌ، وَأَخْرَجَ فِي الْفَضَائِلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا قُدَّامَهُ، وَهَذَا خَلْفَهُ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ فِي آخِرِ التَّوْبَةِ قُبَيْلَ الْفِتَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: وَقَالَ: «نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، مُخْتَصَرٌ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ)، لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّهِمْ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ».
الشرح:
الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَادَ يَهُودِيًّا بِجِوَارِهِ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَخْدِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ» انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْجَنَائِز، أَيْضًا، وَزَادَ: «فَلَمَّا مَاتَ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، انْتَهَى.
وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَوَهَمَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي الْجَنَائِزِ وَفِي الطِّبِّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُهُ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدِمُ النَّبِيَّ، يَضَعُ لَهُ وُضُوءَهُ، وَيُنَاوِلُهُ بَغْلَتَهُ»، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِهِمْ: أَنَّهُ كَانَ جَارَهُ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ جَارًا لَهُ يَهُودِيًّا»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ جَارٌ يَهُودِيٌّ فَمَرِضَ، فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ فِي الثَّالِثَةِ: قُلْ مَا قَالَ لَك، فَفَعَلَ، ثُمَّ مَاتَ، فَأَرَادَتْ الْيَهُودُ أَنْ تَلِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَوْلَى بِهِ، وَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَّنَهُ، وَحَنَّطَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ»، انْتَهَى.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا فُلَانُ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ فِي الثَّالِثَةِ: يَا بُنَيَّ اشْهَدْ، فَشَهِدَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْتَقَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ»، انْتَهَى.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي كِتَابِ عَمَلِ الْيَوْم وَاللَّيْلَةِ حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي آخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصَّوَافُّ ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْقَيْسِيُّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَادَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجْلِسْ عِنْدَهُ، وَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا يَهُودِيُّ، كَيْفَ أَنْتَ يَا نَصْرَانِيُّ، بِدِينِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك) وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ هَذِهِ وَمَقْعَدُ الْعِزِّ، وَلَا رَيْبَ فِي كَرَاهِيَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ الْقُعُودِ، وَكَذَا الْأُولَى، لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِامْتِنَاعِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك، وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ، وَجَدِّك الْأَعْلَى، وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ».
قُلْت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ أَنْبَأَ أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ ثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ الْبَلْخِيّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً تُصَلِّيهِنَّ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَتَتَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا تَشَهَّدْتُ فِي آخِرِ صَلَاتِك، فَأَثْنِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك، وَاسْمِك الْأَعْظَمِ، وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ، ثُمَّ سَلْ حَاجَتَك، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَك، ثُمَّ سَلِّمْ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا تُعَلِّمُوهَا السُّفَهَاءَ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ بِهَا، فَيُسْتَجَابُ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَتَكِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ ثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ بِهِ، سَنَدًا وَمَتْنًا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِلَا شَكٍّ، وَإِسْنَادُهُ مُخَبَّطٌ كَمَا تَرَى، وَفِي إسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ: كَذَّابٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ الْمُعْضِلَاتِ، وَيَدَّعِي شُيُوخًا لَمْ يَرَهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي السُّجُودِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَزَاهُ السُّرُوجِيُّ لِلْحِلْيَةِ وَمَا وَجَدْتُهُ فِيهَا.
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك)، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكُلِّ لَهْوٍ)، لِأَنَّهُ إنْ قَامَرَ بِهَا فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ قِمَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ بِهَا فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا الثَّلَاثَ تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ»، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُبَاحُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الْأَفْهَامِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَنَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ الْخِنْزِيرِ».
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ لَعِبٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الْجَمْعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ» ثُمَّ إنْ قَامَرَ بِهِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لَا تَسْقُطُ، لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ، وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ تَحْذِيرًا لَهُمْ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهِ بَأْسًا لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ، إلَّا ثَلَاثًا: تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ، وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
فَحَدِيثُ عُقْبَةَ: رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ فِي الْجِهَادِ، فَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَّامٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْرَقِ عَنْ عُقْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الثَّلَاثَةَ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، وَارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا، أَوْ قَالَ: كَفَرَهَا»، انْتَهَى.
وَلَمْ يَعْزُهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ إلَّا لِلنَّسَائِيِّ فَقَطْ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْزُو مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّحَابِيِّ، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَعْزُوَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي التَّابِعِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ دَائِرَةٍ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنِ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ، فَمَلَّ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْآخَرُ: أَكَسِلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَهْوٌ، وَلَعِبٌ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَهُوَ سَهْوٌ وَلَغْوٌ، إلَّا أَرْبَعَةً: مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعَلُّمُ الرَّجُلِ السِّبَاحَةَ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ جَابِرِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْجِهَادِ عَنْ سُوَيْد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ لَهْوِ الدُّنْيَا بَاطِلٌ، إلَّا ثَلَاثَةً: انْتِضَالُك بِقَوْسِك، وَتَأْدِيبُك فَرَسَك، وَمُلَاعَبَتُك أَهْلَك، فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ»، مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَقَالَ: سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَتْرُوكٌ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ سَأَلْت أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ، فَذَكَرَهُ، فَقَالَا: هَذَا خَطَأٌ، وَهَمَ فِيهِ سُوَيْد إنَّمَا هُوَ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، فَذَكَرَهُ، هَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، وَحَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مُرْسَلًا، قَالَ أَبِي: وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ الْمُنْذِرِ بْنِ زِيَادٍ الطَّائِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ لَهْوٍ يُكْرَهُ، إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَمَشْيَهُ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ، وَتَعْلِيمَهُ فَرَسَهُ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَأَعَلَّهُ بِالْمُنْذِرِ، وَقَالَ: إنَّهُ يُقَلِّبُ الْأَسَانِيدَ، وَيَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ خِنْزِيرٍ».
قُلْت: غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشِّطْرَنْجِ، أَخْرَجَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ، وَدَمِهِ»، انْتَهَى.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي أَطْرَافِهِ: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْأَدَبِ، وَلَمْ أَجِدْهُ إلَّا فِي كِتَابِ الشِّعْرِ.
أَحَادِيثُ الشِّطْرَنْجِ:
أَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ عَنْ مُطَهِّرِ بْنِ الْهَيْثَمِ ثَنَا شِبْلٌ الْمِصْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْكُوبَةُ؟ أَلَمْ أَنْهَ عَنْهَا؟ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَلْعَبُ بِهَا»، انْتَهَى.
وَأَعَلَّهُ بِمُطَهِّرِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ: وَشِبْلٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَجْهُولَانِ، انْتَهَى.
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَأَعَلَّهُ بِمُطَهِّرٍ، وَقَالَ: إنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ مَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الْأَثْبَاتِ، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ ثَنَا حِزَامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، لَا يَنْظُرُ فِيهَا إلَى صَاحِبِ الشَّاهِ يَعْنِي الشِّطْرَنْجَ»، انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ: وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُصَغَّرُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا، لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ حِبَّانَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُصَغَّرُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تَرَكْتُ حَدِيثَهُ، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوكٌ، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ».
قُلْت: غَرِيبٌ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ قَوْلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا حَفْصٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: «كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُصَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: هَذِهِ النَّرْدُ تَكْرَهُونَهَا، فَمَا بَالُ الشِّطْرَنْجِ؟ قَالَ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَهُوَ الْمَيْسِرُ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةُ دَابَّتِهِ، وَتُكْرَهُ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ وَهَدِيَّتُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا». وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً، وَأَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أَسِيد وَكَانَ عَبْدًا، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهَا، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا بِمِلْكِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ، حِينَ كَانَ عَبْدًا».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ، وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ.
أَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ: فَلَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الْخَامِسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ ثَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي قُرَّةَ الْكِنْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِنْ الْأَسَاوِرَةِ، وَكُنْت أَخْتَلِفُ إلَى الْكُتَّابِ، وَكَانَ مَعِي غُلَامَانِ، إذَا رَجَعَا مِنْ الْكُتَّابِ دَخَلَا عَلَى قَسٍّ، فَأَدْخُلُ مَعَهُمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إلَيْهِ مَعَهُمَا، حَتَّى صِرْتُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُمَا، وَكَانَ يَقُولُ لِي: يَا سَلْمَانُ إذَا سَأَلَك أَهْلُك مَنْ حَبَسَك؟ فَقُلْ: مُعَلِّمِي، وَإِذَا سَأَلَك مُعَلِّمُك مَنْ حَبَسَك؟ فَقُلْ: أَهْلِي، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَلَمَّا مَاتَ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ الرُّهْبَانُ، وَالْقِسِّيسُونَ سَأَلْتُهُمْ، فَقُلْتُ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ دُلُّونِي عَلَى عَالِمٍ أَكُونُ مَعَهُ، قَالُوا: مَا نَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ، أَعْلَمَ مِنْ رَجُلٍ كَانَ يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَإِنْ انْطَلَقْتَ الْآنَ وَجَدْت حِمَارَهُ عَلَى بَابٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، حَتَّى أَرْجِعَ إلَيْك، قَالَ: فَلَمْ أَرَهُ إلَى الْحَوْلِ، وَكَانَ لَا يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ إلَّا فِي السَّنَةِ مَرَّةً فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، فَلَمَّا جَاءَ، قُلْتُ لَهُ: مَا صَنَعْتَ فِي أَمْرِي؟ قَالَ: وَأَنْتَ إلَى الْآنَ هَاهُنَا بَعْدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ يَتِيمٍ خَرَجَ فِي أَرْضِ تِهَامَةَ، وَإِنْ تَنْطَلِقْ الْآنَ تُوَافِقْهُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَعِنْدَ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ الْيَمِينِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، مِثْلُ الْبَيْضَةِ، لَوْنُهُ لَوْنُ جِلْدِهِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ تَرْفَعُنِي أَرْضٌ وَتَخْفِضُنِي أُخْرَى حَتَّى أَصَابَنِي قَوْمٌ مِنْ الْأَعْدَاءِ، فَأَخَذُونِي، فَبَاعُونِي حَتَّى وَقَعْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْعَيْشُ عَزِيزًا، فَسَأَلْتُ قَوْمِي أَنْ يَهَبُوا لِي يَوْمًا، فَفَعَلُوا، فَانْطَلَقْتُ، فَاحْتَطَبْتُ، فَبِعْتُهُ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ صَنَعْتُ بِهِ طَعَامًا، وَاحْتَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُ بِهِ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا هَذَا؟ قُلْتُ: صَدَقَةٌ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَبَى هُوَ أَنْ يَأْكُلَ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ مَكَثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَوْهَبْتُ قَوْمِي يَوْمًا آخَرَ، فَفَعَلُوا، فَانْطَلَقْت، فَاحْتَطَبْتُ، فَبِعْتُهُ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَصَنَعْت طَعَامًا، وَأَتَيْته بِهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: هَدِيَّةٌ، فَقَالَ بِيَدِهِ: بِسْمِ اللَّهِ كُلُوا، فَأَكَلَ، وَأَكَلُوا مَعَهُ، وَقُمْتُ إلَى خَلْفِهِ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ عَنْ كَتِفِهِ، فَإِذَا خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، كَأَنَّهُ بَيْضَةٌ.
قُلْت: أَشْهَدْ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثِي، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْقِسُّ الَّذِي أَخْبَرَنِي أَنَّكَ نَبِيٌّ، أَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: لَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ.
قُلْت: إنَّهُ زَعَمَ أَنَّك نَبِيٌّ، قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسُ مُسْلِمَةٌ»
، انْتَهَى.
طَرِيقٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ ثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ «أَنَّهُ سَأَلَ سَلْمَانَ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إسْلَامِك؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: كُنْتُ يَتِيمًا مِنْ رَامَهُرْمُزَ، فَذَكَرَهُ مُطَوَّلًا، إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ لِي يَعْنِي الرَّاهِبَ الَّذِي لَازَمَهُ سَلْمَانُ يَا سَلْمَانُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَاعِثٌ رَسُولًا اسْمُهُ أَحْمَدُ، يَخْرُجُ بِتِهَامَةَ عَلَامَتُهُ، أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ، وَهَذَا زَمَانُهُ، فَقَدْ تَقَارَبَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، فَكُلَّمَا سَأَلْتُ عَنْهُ، قَالُوا لِي: أَمَامَك، حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ مِنْ كَلْبٍ، فَأَخَذُونِي، فَأَتَوْا بِي بِلَادَهُمْ، فَبَاعُونِي لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ لَهَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ شَيْئًا مِنْ تَمْرِ حَائِطِي، فَجَعَلْتُهُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَتَيْتُهُ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، وَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: صَدَقَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ لَبِثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَذَهَبْتُ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ هَدِيَّةٌ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَأَكَلَ، وَأَكَلَ الْقَوْمُ، وَدُرْتُ خَلْفَهُ، فَفَطِنَ لِي، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ، فَرَأَيْت الْخَاتَمَ فِي نَاحِيَةِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ دُرْتُ، فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ.
قُلْت: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْت: مَمْلُوكٌ، قَالَ: لِمَنْ؟ قُلْتُ: لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، جَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ لَهَا، فَسَأَلَنِي، فَحَدَّثْتُهُ جَمِيعَ حَدِيثِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ اشْتَرِهِ، فَاشْتَرَانِي أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَنِي»
، مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: بَلْ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ حَدَّثَنِي أَبُو الطُّفَيْلِ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ، فَذَكَرَهُ بِزِيَادَاتٍ وَنَقْصٍ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ سَاقِطٌ، انْتَهَى.
طَرِيقٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ فُورَكٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَخِي زِيَادٍ ثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ ثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ الرَّاسِبِيُّ أَبُو مُعَاذٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: «وُلِدْتُ بِرَامَهُرْمُزَ، وَنَشَأْتُ بِهَا، وَكَانَ أَبِي مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، وَكَانَ لِأُمِّي غِنَاءٌ، وَعَيْشٌ، قَالَ: فَأَسْلَمَتْنِي أُمِّي إلَى الْكُتَّابِ، فَكُنْتُ أَنْطَلِقُ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَعَ غِلْمَانِ فَارِسَ، وَكَانَ فِي طَرِيقِنَا جَبَلٌ فِيهِ كَهْفٌ، فَمَرَرْتُ يَوْمًا وَحْدِي، فَإِذَا أَنَا فِيهِ بِرَجُلٍ طِوَالٍ عَلَيْهِ ثِيَابُ شَعْرٍ، فَأَشَارَ إلَيَّ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ لِي: أَتَعْرِفُ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ قُلْتُ لَهُ: لَا، وَلَا سَمِعْتُ بِهِ، قَالَ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ، مَنْ آمَنَ بِهِ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ غَمِّ الدُّنْيَا إلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ الْإِنْجِيلِ، قَالَ: فَعَلَقَهُ قَلْبِي وَدَخَلَتْ حَلَاوَةُ الْإِنْجِيلِ فِي صَدْرِي، وَفَارَقْتُ أَصْحَابِي، وَجَعَلْتُ كُلَّمَا ذَهَبْت وَرَجَعْت قَصَدْت نَحْوَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: فَخَرَجْتُ إلَى الْقُدْسِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إذَا أَنَا بِرَجُلٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، عَلَيْهِ الْمُسُوحُ، قَالَ: فَجَلَسْتُ إلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَتَعْرِفُ فُلَانًا الَّذِي كَانَ بِمَدِينَةِ فَارِسَ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ الَّذِي وَصَفَهُ لِي. قُلْت: كَيْفَ وَصَفَهُ لَك؟ قَالَ: وَصَفَهُ لِي، فَقَالَ: إنَّهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَخْرُجُ مِنْ جِبَالِ تِهَامَةَ، يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَالْبَغْلَةَ، الرَّحْمَةُ فِي قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، يَكُونُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ عِنْدَهُ سَوَاءً، لَيْسَ لِلدُّنْيَا عِنْدَهُ مَكَانٌ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، مَكْتُوبٌ فِي بَاطِنِهِ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي ظَاهِرِهِ تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْتَ، فَإِنَّك مَنْصُورٌ، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، لَيْسَ بِحَقُودٍ وَلَا حَسُودٍ، لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، فَمَنْ صَدَّقَهُ وَنَصَرَهُ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُعْطَاهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقُلْت: لَعَلِّي أَقْدِرُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَخَرَجْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَمَرَّ بِي أَعْرَابٌ مِنْ كَلْبٍ، فَاحْتَمَلُونِي إلَى يَثْرِبَ، وَسَمَّوْنِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: فَبَاعُونِي لِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: حُلَيْسَةُ بِنْتُ فُلَانٍ حَلِيفٍ لِبَنِي النَّجَّارِ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَتْ لِي: سِفْ هَذَا الْخَوْصَ، وَاسْعَ عَلَى بَنَاتِي، قَالَ: فَمَكَثْتُ عَلَى ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَسَمِعْتُ بِهِ، وَأَنَا فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ أَلْتَقِطُ الْخِلَالَ فَجِئْتُ إلَيْهِ أَسْعَى حَتَّى دَخَلْت عَلَيْهِ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَوَضَعْت بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْخِلَالِ، فَقَالَ لِي: مَا هَذَا؟ قُلْت: صَدَقَةٌ، قَالَ: إنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَرَفَعْته مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَنَاوَلْت مِنْ إزَارِي شَيْئًا آخَرَ، فَوَضَعْته بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْت: هَدِيَّةٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَطْعَمَ مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إلَيَّ فَقَالَ لِي: أَحُرٌّ أَنْتَ أَمْ مَمْلُوكٌ؟ قُلْت: مَمْلُوكٌ، قَالَ: فَلِمَ وَصَلْتنِي بِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ؟ قُلْت: كَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ أَمْرِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَذَكَرْت لَهُ قِصَّتِي كُلَّهَا، فَقَالَ لِي: إنَّ صَاحِبَك كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا: آمَنَّا بِهِ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ رَأَيْت فِي مَا قَالَ لَكَ؟ قُلْت: نَعَمْ، إلَّا شَيْئًا بَيْنَ كَتِفَيْك، قَالَ: فَأَلْقَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رِدَاءَهُ عَنْ كَتِفِهِ، فَرَأَيْت الْخَاتَمَ مِثْلَ مَا قَالَ، فَقَبَّلْته، ثُمَّ قُلْت: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا عَلِيُّ اذْهَبْ مَعَ سَلْمَانَ إلَى حُلَيْسَةَ، فَقُلْ لَهَا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَك: إمَّا أَنْ تَبِيعِينَا هَذَا، وَإِمَّا تُعْتِقِيهِ، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكِ خِدْمَتُهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا لَمْ تُسْلِمْ، قَالَ: يَا سَلْمَانَ أَلَمْ تَدْرِ مَا حَدَثَ بَعْدَك عَلَيْهَا، دَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُ عَمٍّ لَهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ، قَالَ سَلْمَانُ: فَانْطَلَقْت إلَيْهَا أَنَا، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَافَيْنَاهَا، تَذْكُرُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهَا عَلِيٌّ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ: اذْهَبْ إلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ شِئْت فَأَعْتِقْهُ، وَإِنْ شِئْت فَهُوَ لَك، قَالَ: فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِرْتُ أَغْدُو إلَيْهِ وَأَرُوحُ، وَتَعُولُنِي حُلَيْسَةُ»، مُخْتَصَرٌ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُرْسَلَةٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ قَدْ خَالَطَ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ دَانْيَالَ بِأَرْضِ فَارِسَ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَسَمِعَ بِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَصِفَتِهِ مِنْهُمْ، فَإِذَا فِي حَدِيثِهِمْ: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ، فَسَجَنَهُ أَبُوهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ هَلَكَ أَبُوهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الشَّامِ، فَكَانَ هُنَاكَ فِي كَنِيسَةٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَلْتَمِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ أَهْلُ تَيْمَاءَ فَاسْتَرَقُّوهُ، ثُمَّ قَدِمُوا بِهِ الْمَدِينَةَ، فَبَاعُوهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمِئِذٍ بِمَكَّةَ، لَمْ يُهَاجِرْ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ سَلْمَانُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ قَالَ: صَدَقَةٌ، فَلَمْ يَأْكُلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ الْغَدِ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ قَالَ: هَدِيَّةٌ، فَأَكَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ، وَنَظَرَ سَلْمَانُ إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، فَقَالَ لَهُ: كَاتِبْهُمْ يَا سَلْمَانُ، فَكَاتَبَهُمْ سَلْمَانُ عَلَى مِائَتَيْ وَدِيَّةٍ، فَرَمَاهُ الْأَنْصَارُ مِنْ وَدِيَّةٍ وَوَدِيَّتَيْنِ، حَتَّى أَوْفَاهُمْ»، انْتَهَى.
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ: فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَائِدَةٍ عَلَيْهَا رُطَبٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ قَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقْتُ بِهَا عَلَيْك، وَعَلَى أَصْحَابِك، قَالَ: إنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، حَتَّى إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ جَاءَ بِمِثْلِهَا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَدِيَّةٌ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَكَلَ، وَنَظَرَ إلَى الْخَاتَمِ فِي ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِقَوْمٍ، قَالَ: فَاطْلُبْ إلَيْهِمْ أَنْ يُكَاتِبُوك عَلَى كَذَا وَكَذَا نَخْلَةً أَغْرِسُهَا لَهُمْ، وَتَقُومُ عَلَيْهَا أَنْتَ، حَتَّى تُطْعِمَ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَرَسَ ذَلِكَ النَّخْلَ كُلَّهَا بِيَدِهِ، وَغَرَسَ عُمَرُ مِنْهَا نَخْلَةً، فَأَطْعَمَتْ كُلُّهَا فِي السَّنَةِ إلَّا تِلْكَ النَّخْلَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَرَسَ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: عُمَرُ، فَغَرَسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَحَمَلَتْ مِنْ سَنَتِهَا»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إلَّا عَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي «سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْهِ، وَكُنْتُ أَجْتَهِدُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ، أُوقِدُ النَّارَ، لَا أَتْرُكُهَا تَخْمَدُ أَبَدًا اجْتِهَادًا فِي دِينِي، فَأَرْسَلَنِي أَبِي يَوْمًا إلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فِي بَعْضِ عَمَلِهِ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، وَرَغِبْتُ عَنْ دِينِي، فَلَمَّا رَجَعْت إلَى أَبِي أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَأَخَافَنِي، وَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، وَحَبَسَنِي فِي بَيْتٍ أَيَّامًا، ثُمَّ أُخْبِرْتُ بِقَوْمٍ مِنْ النَّصَارَى خَرَجُوا تُجَّارًا إلَى الشَّامِ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ الْقَيْدَ مِنْ رِجْلِي، وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَسَأَلْتُ عَنْ الْأُسْقُفِ مِنْ النَّصَارَى، فَدَلُّونِي عَلَيْهِ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَجِئْتُ إلَيْهِ، وَخَدْمَتُهُ وَلَازَمْتُهُ، وَكُنْت أُصَلِّي مَعَهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ وَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِذَا جَمَعُوا لَهُ شَيْئًا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا جَاءُوا لِيَدْفِنُوهُ أَخْبَرْتُهُمْ بِخَبَرِهِ، وَدَلَلْتُهُمْ عَلَى مَوْضِعِ كَنْزِهِ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَصَلَبُوهُ، وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ جَاءُوا بِآخَرَ، فَوَضَعُوهُ مَكَانَهُ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبَ فِي الْعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَسَأَلْتُهُ، فَأَوْصَى بِي إلَى رَجُلٍ بِنَصِيبِينَ، فَلَحِقْت بِهِ، فَلَازَمْتُهُ، فَوَجَدْته عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَسَأَلْتُهُ، فَأَوْصَى بِي إلَى رَجُلٍ فِي عَمُّورِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَلَحِقْتُ بِهِ، وَلَازَمْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِنَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّك زَمَانُ نَبِيٍّ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ، بِهِ عَلَامَاتٌ، لَا تَخْفَى، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ، ثُمَّ مَاتَ وَدُفِنَ، قَالَ: فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارٌ، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرِي وَغَنَمِي؟ وَقَدْ اكْتَسَبْتُ بَقَرًا وَغَنَمًا، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأَعْطَيْتهمْ، وَحَمَلُونِي، حَتَّى إذَا قَدِمُوا بِي عَلَى وَادِي الْقُرَى، ظَلَمُونِي، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ، فَكُنْتُ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، وَحَمَلَنِي إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ، مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ الرِّقِّ، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَذَهَبْتُ إلَيْهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّك رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَصْحَابُك غُرَبَاءُ، ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، رَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَمَضَيْتُ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ الْغَدِ، وَمَعِي شَيْءٌ آخَرُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ، أَكْرَمْتُك بِهَا، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَأَكَلُوا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ ثِنْتَانِ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدْبَرْت أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَعَرَفَ الَّذِي أُرِيدُ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلَى الْخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَبَّلْتُهُ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي، فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا سَلْمَانُ كَاتِبِ عَنْ نَفْسِك، قَالَ: فَكَاتَبْتُ مَوْلَائِي عَنْ نَفْسِي بِثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَرَجَعْتُ إلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُعِينُنِي بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، وَالرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى جَمَعُوا لِي ثَلَاثَمِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي، فَجَعَلْتُ أُقَرِّبُ لَهُ الْوِدِّيَّ، وَهُوَ يَغْرِسُهُ بِيَدِهِ، قَالَ: وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لِي: يَا سَلْمَانُ خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّهَا بِمَا عَلَيْك، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّهَا سَتُؤَدِّي عَنْك، قَالَ سَلْمَانُ: فَوَاَلَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَقَدْ وَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا بِيَدِي أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَوْفَيْتهمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ، وَشَهِدْتُ الْخَنْدَقَ حُرًّا، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَشْهَدٌ»، مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامٍ طَوِيلٍ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ سَلْمَانَ، وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مُخْتَصَرًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ، فَقُلْت لَهُ: هَذَا صَدَقَةٌ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ أَتَيْته بِطَعَامٍ آخَرَ، فَقُلْت: هَذَا هَدِيَّةٌ لَك، أُكْرِمُك بِهِ، فَإِنِّي لَا أَرَاك تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا، وَأَكَلَ مَعَهُمْ»، انْتَهَى.
وَكَانَ هَذَا الْإِسْنَادُ دَاخِلًا فِي مُسْنَدِ سَلْمَانَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً».
قُلْت: حَدِيثُ بَرِيرَةَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا، وَيَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا، وَاعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَعَتَقَتْ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجِهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا، وَتُهْدِي لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ»، انْتَهَى.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَمُسْلِمٌ فِي الْعِتْقِ، وَأَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاقِ، وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ، وَفِي الْعِتْقِ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الرَّضَاعِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْهَدِيَّةَ وَقَعَتْ حِينَ كَانَتْ مُكَاتَبَةً، وَلَكِنْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الطَّلَاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: «جَاءَتْ وَلِيدَةٌ لِبَنِي هِلَالٍ، يُقَالُ لَهَا: بَرِيرَةُ تَسْأَلُ عَائِشَةَ فِي كِتَابَتِهَا، فَسَامَتْ عَائِشَةُ بِهَا أَهْلَهَا، فَقَالُوا: لَا نَبِيعُهَا إلَّا وَلَنَا وَلَاؤُهَا، فَتَرَكَتْهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إلَّا وَلَهُمْ وَلَاؤُهَا، قَالَ: لَا يَمْنَعُك ذَاك، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَابْتَاعَتْهَا عَائِشَةُ، فَأَعْتَقَتْهَا، وَخَيَّرَتْ بَرِيرَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَسَمَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً، فَأَهْدَتْ لِعَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ؟ قَالَتْ: لَا إلَّا مِنْ الشَّاةِ الَّتِي أَعْطَيْتَ بَرِيرَةَ، فَنَظَرَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: قَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، هِيَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهِيَ لَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ، فَأَكَلَ مِنْهَا، قَالَ: زَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّهَا ابْتَاعَتْهَا مُكَاتَبَةً عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوَاقٍ، وَلَمْ تُعْطِ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُكَاتَبِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ: «أَنَّ عَائِشَةَ ابْتَاعَتْ بَرِيرَةَ مُكَاتَبَةً عَلَى ثَمَانِ أَوَاقٍ، لَمْ تَقْضِ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا»، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: رُوِيَ أَنَّهُ أَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أَسِيد.
قُلْت: غَرِيبٌ، وَتُنْظَرُ تَرْجَمَةُ أَسِيد مَوْلَى أَبِي أَسِيد السَّاعِدِيِّ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إجَابَةِ الْعَبْدِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَنَائِزِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَلَقَدْ كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَيَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ، خِطَامُهُ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ، وَتَحْتَهُ إكَافٌ مِنْ لِيفٍ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَعْوَرِ، وَهُوَ يُضَعَّفُ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ لَهُ) وَأَصْلُ هَذَا: أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصِّغَارِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ هُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ هُوَ وَلِيٌّ كَالْإِنْكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَمْوَالِ الْقِنْيَةِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ، وَنَوْعٌ آخَرُ: مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حَالِ الصِّغَارِ، وَهُوَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ مِمَّنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطِ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمْ، وَإِذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ هَذَا النَّوْعَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ.
وَنَوْعٌ ثَالِثٌ: مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ فَهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَالْأَخُ وَالْعَمُّ وَالصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ فَتْحُ بَابِ مِثْلِهِ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُ بِالْعَقْلِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحَجْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْفَاقِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَيَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُؤَاجِرَ ابْنَهَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَمِّ)، لِأَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِاسْتِخْدَامِهِ، وَلَا كَذَلِكَ لِلْمُلْتَقِطِ وَالْعَمِّ.
(وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ)، لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ (إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ)، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَحَّضَ نَفْعًا فَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ) وَيُرْوَى الدَّابَّةَ وَهُوَ طَوْقُ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ، لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ النَّارِ فَيُكْرَهُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ (وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُ)، لِأَنَّهُ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السُّفَهَاءِ، وَأَهْلِ الدَّعَارَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْعَبْدِ تَحَرُّزًا عَنْ إبَاقِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ)، لِأَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمُحَرَّمَ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ.
الشرح:
قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ التَّدَاوِيَ، مُبَاحٌ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثُ.
قُلْت: يُشِيرُ إلَى حَدِيثِ: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً»، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
فَحَدِيثُ أُسَامَةَ: أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَعَدْتُ، فَجَاءَ الْأَعْرَابُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءِ الْهَرَمِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَلَفْظُ ابْنِ رَاهْوَيْهِ فِيهِ: «فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ؟ قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ، قَالَ: فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ جَعَلُوا يُقَبِّلُونَ يَدَهُ، قَالَ شَرِيكٌ: فَضَمَمْت يَدَهُ إلَيَّ، فَإِذَا هِيَ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ» انْتَهَى.
وَبِلَفْظِ السُّنَنِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ السَّبْعِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَعِلَّتُهُ عِنْدَهُمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ لَا يَرْوِي عَنْهُ غَيْرُ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى، نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الطِّبِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَشَرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَثِقَاتِهِمْ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، وَعُمَرُ بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، وَأَبُو حَمْزَةَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ وَشَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ وَالسُّكَّرِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ السَّبِيعِيُّ، ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَادِيثَهُمْ الْجَمِيعُ، ثُمَّ قَالَ: فَانْظُرْ هَلْ يُتْرَكُ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اشْتِهَارِهِ، وَكَثْرَةِ رُوَاتِهِ، بِأَنْ لَا يُوجَدَ لَهُ عَنْ الصَّحَابِيِّ إلَّا تَابِعِيٌّ وَاحِدٌ؟
قَالَ: وَسَأَلَنِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ، لِمَ أَسْقَطَ الشَّيْخَانِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ مِنْ الْكِتَابَيْنِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا لِأُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَاوِيًا غَيْرَ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، فَقَالَ لِي أَبُو الْحَسَنُ، وَكَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ: قَدْ أَخْرَجَا جَمِيعًا حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ»، الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ لِعَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ رَاوٍ غَيْرُ قَيْسٍ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، وَلَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ الْحَسَنِ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا حَدِيثَ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَيْسَ لِزَاهِرٍ رَاوٍ غَيْرُ مَجْزَأَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ أَسْلَافًا»، وَلَيْسَ لِمِرْدَاسٍ رَاوٍ غَيْرُ قَيْسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا حَدِيثَيْنِ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَاوٍ غَيْرُ زُهْرَةَ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ أَصَحُّ، وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ رُوَاةً مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، مَعَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ قَدْ رَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ، وَمُجَاهِدٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ فِي حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ تُرَى عَلَيْهِ»، لَمْ يُخْرِجْ الشَّيْخَانِ هَذَا الْحَدِيثَ، لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ نَضْلَةَ لَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ ابْنِهِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ ابْنِهِ، وَكَذَلِكَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ ابْنِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ: فَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ الْعَمِّيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ، فَتَدَاوَوْا»، انْتَهَى.
وَعَنْ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، قَالَ الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، وَقَالَ الثَّانِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: ثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأَيُّهَا النَّاسُ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَقَدْ خَلَقَ لَهُ شِفَاءً، إلَّا السَّامَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ طَلْحَةَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ ثَنَا أَبُو وَكِيعٍ الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»، انْتَهَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ تَابَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَيُّوبُ بْنُ عَائِذٍ عَنْ قَيْسٍ فِي رَفْعِهِ، انْتَهَى.
قُلْت: كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدِ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ الطَّائِيِّ عَنْ قَيْسٍ بِهِ مَرْفُوعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَرَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ الصَّفَّارُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَتَّابٍ ثَنَا ابْنُ أَبِي سَمِينَةَ ثَنَا بَكْرُ بْنُ بَكَّارَ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَدَاوَوْا، فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ سَوَاءً.
(وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي): «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيد إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ وَفَرَضَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا، لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ إذَا مَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ كِفَايَةً، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، إذْ الْقَضَاءُ طَاعَةٌ بَلْ هُوَ أَفْضَلُهَا، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا كَانَ فَقِيرًا فَالْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ فَرْضِ الْقَضَاءِ إلَّا بِهِ إذْ الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يُقْعِدُهُ عَنْ إقَامَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ عَلَى مَا قِيلَ رِفْقًا بِبَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ الْأَخْذُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ الْهَوَانِ وَنَظَرًا لِمَنْ يُولَى بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ، لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ إعَادَتُهُ، ثُمَّ تَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ، وَفِي زَمَانِنَا الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ فِي آخِرِ السَّنَةِ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ اسْتَوْفَى رِزْقَ سَنَةٍ وَعُزِلَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا، قِيلَ: هُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ فِي السَّنَةِ بَعْدَ اسْتِعْجَالِ نَفَقَةِ السَّنَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنِ أَسِيد إلَى مَكَّةَ، وَفَرَضَ لَهُ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ، وَفَرَضَ لَهُ».
قُلْت: غَرِيبٌ، وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيد عَلَى مَكَّةَ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَيْهَا»، وَمَاتَ عَتَّابٌ بِمَكَّةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَتَّابَ بْنَ أَسِيد وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَصَبْتُ فِي عَمَلِي هَذَا الَّذِي وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا ثَوْبَيْنِ مُعَقَّدَيْنِ، فَكَسَوْتُهُمَا مَوْلَايَ، انْتَهَى.
وَسَكَتَ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عَتَّابٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ يَقُولُ: «قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيد عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، كَانَ وَلَّاهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ الشَّيْبَانِيُّ ثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيد عَنْ مَوْلًى لَهُمْ، أُرَاهُ ابْنَ كَيْسَانَ، قَالَ: قَالَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيد: مَا أَصَبْت مُنْذُ وُلِّيتُ عَمَلِي هَذَا إلَّا ثَوْبَيْنِ مُعَقَّدَيْنِ، كَسَوْتُهُمَا مَوْلَايَ كَيْسَانَ، انْتَهَى.
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَضَ لَهُ سَنَةً أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَتَكَلَّمُوا فِي الْمَالِ الَّذِي رَزَقَهُ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ الدَّوَاوِينُ وَلَا بَيْتُ الْمَالِ، فَإِنَّ الدَّوَاوِينَ وُضِعَتْ زَمَنَ عُمَرَ، فَقِيلَ: رِزْقُهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَالْجِزْيَةُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَذَكَرَ أَبُو الرَّبِيعِ بْنُ سَالِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَضَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، انْتَهَى.
وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَزَقَ شُرَيْحًا، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْقَضَاءِ، انْتَهَى.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ شُرَيْحٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَلِيًّا رَزَقَ شُرَيْحًا خَمْسَمِائَةٍ. انْتَهَى.
وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْبَرَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفَرَضَ لَهُ رِزْقًا، انْتَهَى.
وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ ثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: لَمَّا اُسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْبَحَ غَادِيًا إلَى السُّوقِ يَحْمِلُ ثِيَابًا عَلَى رَقَبَتِهِ، لِيَتَّجِرَ فِيهَا، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَا لَهُ: إلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي، قَالَا لَهُ: انْطَلِقْ حَتَّى نَفْرِضَ لَك شَيْئًا، فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ شَطْرَ شَاةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إلَيَّ الْقَضَاءُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَإِلَيَّ الْفَيْءُ، قَالَ عُمَرُ: فَلَقَدْ كَانَ يَأْتِي عَلَيَّ الشَّهْرُ مَا يَخْتَصِمُ فِيهِ إلَيَّ اثْنَانِ، انْتَهَى.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا اُسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلُوا لَهُ أَلْفَيْنِ، فَقَالَ: زِيدُونِي، فَإِنَّ لِي عِيَالًا، وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي عَنْ التِّجَارَةِ، قَالَ: فَزَادُوهُ خَمْسَمِائَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا كَانَتْ أَلْفَيْنِ فَزَادُوهُ خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ كَانَتْ أَلْفَيْنِ، وَخَمْسِمِائَةٍ، وَزَادُوهُ خَمْسَمِائَةٍ، انْتَهَى.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَوْمَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُ وَيَبْتَاعُ، فَلَمَّا بُويِعَ لِلْخِلَافَةِ، قَالَ: وَاَللَّهِ مَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ إلَّا التَّفَرُّغُ لَهُمْ، وَالنَّظَرُ فِي شَأْنِهِمْ، وَلَا بُدَّ لِعِيَالِي مِمَّا يُصْلِحُهُمْ، فَتَرَكَ التِّجَارَةَ، وَاسْتَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ، وَيُصْلِحُ عِيَالَهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لَهُمْ: رُدُّوا مَا عِنْدَنَا إلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ، إنَّ أَرْضِي الَّتِي هِيَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمَا أَصَبْتُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ وَاَللَّهِ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ، مُخْتَصَرٌ، وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَجُلًا سَمْحًا شَابًّا جَمِيلًا: مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ قَوْمِهِ، وَكَانَ لَا يَمْسِكُ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حَتَّى أَغْلَقَ مَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ إلَيْهِ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ غُرَمَاؤُهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَأَبَوْا، فَلَوْ تُرِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ لَتَرَكُوا لِمُعَاذٍ مِنْ أَجْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مَا لَهُ فِي دَيْنِهِ، حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَامِ فَتْحِ مَكَّةَ، بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْيَمَنِ أَمِيرًا لِيُجِيزَهُ فَمَكَثَ مُعَاذٌ بِالْيَمَنِ أَمِيرًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اتَّجَرَ فِي مَالِ اللَّهِ، فَمَكَثَ حَتَّى أَصَابَ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِمَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: دَعْ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ، وَخُذْ سَائِرَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُجِيزَهُ، وَلَسْتُ بِآخِذٍ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُعْطِيَنِي، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلَى مُعَاذٍ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ مِثْلَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَرَكَهُ، ثُمَّ يَأْتِي مُعَاذٌ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَطَعْت عُمَرَ، وَأَنَا فَاعِلٌ مَا أَمَرَنِي بِهِ، إنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنِّي فِي حَوْمَةِ مَاءٍ، وَقَدْ خَشِيتُ الْغَرَقَ، فَخَلَّصَنِي مِنْهُ عُمَرُ، ثُمَّ أَتَى بِمَالِهِ، وَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لَا آخُذُهُ مِنْك، قَدْ وَهَبْتُهُ لَك، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا حِينَ طَابَ، وَحَلَّ، قَالَ: فَخَرَجَ مُعَاذٌ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى الشَّامِ»، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، يَقُولُ: «لَمَّا بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَ مُعَاذٍ أَوْقَفَهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ بَاعَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَهُوَ بَاطِلٌ»، انْتَهَى.
أَخْرَجَهُ فِي الْبُيُوعِ: «وَبَعْثُ عَلِيٍّ إلَى الْيَمَنِ» تَقَدَّمَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّهُ فَرَضَ لَهُ.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ)، لِأَنَّ الْأَجَانِبَ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ، وَالْمَسُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الْمِلْك فِيهَا وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.